“غزوة بدر الكبرى: وقفة تاريخية تصويرية ودراسة تحليلية تليها دروس وعبر “

0
508

كتب الأستاذ / خليفة فال – باحث في مرحلة الدكتوراه في جامعة الزيتونة بتونس ومتكون في كلية علوم وتقنيات التربية والتكوين (فاستيف).


تعتبر غزوة بدر الكبرى أولى غزوة شهدها التاريخ الإسلامي ، من حيث بدايات شروق فجر الإسلام الباسم ، وهي أول حدٍّ فاصل وحاسم بين الإيمان والكفران ، وبين المسلمين عباد الله الواحد الأحد، الفرد الصمد ، والمشركين تبعة الشيطان و عبدة الطاغوت ، الأصنام والأوثان ، ليُفَرَّق بين الحق والباطل ، وليحق الحق وليبطل الباطل ،ولتكون كلمة الله هي العليا ، وكلمة الشيطان هي السفلى ، وليهلك المولى (عزّ وجل)من هلك عن بينة ويحيي من يحيي عن بينة.
في صباح سابع عشر يوم الجمعة من شهر رمضان المبارك من سنته الثانية للهجرة ، توقدت نار حرب ضروس شبمة ، واندلعت بشرارتها والتهابها وتأجّجها ، ليكون حامل شهبها المشتعلة بوَقود الإيمان، ضياغيم وحماميزُ مجوّعين بالموت في سبيل الله ، بشهادة قول قائدهم الجسور الجريء ،والقدوة الحسنة (( والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة )) (¹) ، فآثروا الموتَ والحياةَ الأخرى على البقاء في الحياة الدنيا ، بعدما شُوّقوا وشغِفوا بحب الله ورسوله، وشغِلوا بقوة الإيمان والانتصار للحق ، والثبات في الموقف ، وبعدما خرجوا من الآجام مودِّعين الأشبال ، غير متوقعين رجوعهم ، بل راجين لقاء المولى عز وجل ، حيث الجزاء الموفور ، وتقبل العمل المشكور ، والنعيم الخالد.


في حين يترقّب الفريق الآخر انبثاق أرواحهم وانبعاثها حيِيَة بعدما كتِب لها الاحتراقُ و الاصطلاء في نار تلك الحرب ، فكانوا يسيرون وهم ميتون ، متنعمين وهم معذبون ، مفتخرين وهم محترقون، فاندفعوا نحو بدر مرابدهم ومصارعهم ، قاصدين حتفهم وهم لا يعرفون ، ناوين الترف والترفه في العيش ، بذبحهم الجزور والإبل وإطعامهم الطعام ، واستقائهم الخمر ، وعزف الجاريات والقيان لهم ، والسمعة والرياء من العرب قصدَ الإهابة والإرهاب ،( ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس) والتخويف والإرعاب ، أولئك من تحقق وعد الله عليهم فخسروا الدنيا والآخرة.
وقبل التحام تلك الجيشين ، خرج لأسودنا ثلاثة منهم يريدون المبارزة (شيبة ، الوليد ، عتبة بن ربيعة ) فقتل الأولين (حمزة بن عبد المطلب ) و(علي بن أبي طالب )فأثخن كل من ( عبيدة بن الحارث ) و(عتبة بن ربيعة ) على الآخر بضربة ، فحمل عبيدة وأسرع به إلى قائد المعركة حيث يشفى الجنود ، ويبشر بجنات أعدت للذين جاهدوا في الله حق جهاده .
هنالك احتطم الفريقان ، واحتدما ، وشب القتال بينهم ، وانتهت بأن أبلي المسلمون بلاء حسنا ، وزلزل المشركون زلزالا شديدا ، واشمأزت قلوبهم ، فمُزّقوا شر ممزّق وكله، وانتهت المعركة بنصر مبين وساحق للمسلمين ، وهزيمة فريدة للمشركين ، حيث لم يدّون التاريخ قط مرة أن جيشا مكونة بهذه القلة من العدد والعدة والأسلحة والإمكانيات الحربية ، هزمت جيشا قد شبّت على الحرب وشابت فيها وذابت عليها ـــــ ـاللهم إلا ما حكى لنا القرآن مما جرى بين داود وجالوت ــــ حيث كان عدد المسلمين (٣١٤) والمشركون(٩٥٠) رجلا ، لكن حكمة الله وسنته التي لا تتبدل ولا تتحول أو تتغير قد خلت من قبل (( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ، والله مع الصابرين)). ²


وإثر ذلك لقي سبعون من المشركين حمامهم فأسري المثل من صناديدهم وزعمائهم فجنوا جنونهم ، في حين استشهد أربعة عشر (١٤)رجلا من المسلمين ، ليفطروا من صيامهم ذاك في جنات دُنّيت ظلالها ، وذلّلت قطوفها تذليلا ، وليطوّف عليهم بآنية فضية وذهبية مكونة من قوارير ، وكؤوس مزاجها زنجبيل من عين سلسبيل ، جزاء بما صبروا وكانوا يتقون.
من الدروس والحكم المعتبرة التي يمكن تلخيصها من هذه الغزوة ، ما يلي :
١– جواز الانتقام من العدو وأخذ الثأر به والنكاية منه ، والتعرض لقوته المادية أو المعنوية ، وقطع طريقه ، كما أراد المسلمون بخروجهم يوم ذاك تعرّض قافلة قريش ، واسترجاع بعض ما أخذوه منهم من أموالهم حين الهجرة.
٢– جواز أخذ الجواسيس والكشفة والعيون لرصد أخبار العدو للتطلع على مكائده والكشف عن خططه وإبطالها، واستئصالها نهائيا ، كما فعله الرسول (صلى الله عليه وسلم ) بإرسال عليّ بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقّاص (رضي الله عنهم ) إلى جيش المشركين لالتقاط المعلومات عنها* .
٣—جواز أخذ الفدية من الأسرى الحربيين ، أو القتل ، أو العفو عنهم وإطلاق سراحهم والإفراج عنهم ، باستثناء الأطفال والنساء والشيوخ الفانين، مالم يكونوا محاربين ، : ((فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإنا فداء حتى تضع الحرب أوزارها )). ³
٤—عدم وجود أي حرج في قتل من أسر عليه من قبل المحاربين ، إذا كان من الذين أجرموا في ساحة المسلمين ، وضحكوا من الذين آمنوا واستهزئوا بهم ، كما قام به بلا ل بن رباح ومن معه بقتل أميةَ بن خلف حين كان أسير ا لعبد الرحمان بن عوف ، وكان معروفا بأذاه الشديد للمسلمين والتنكيل بهم .
٥—تولية الإسلام للشورى اهتماما بالغا ، وأخذه من أصحاب الرأي والحل والعقد ، كما استشار الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الصحابة قبل توغّل المعركة ، وأشار إليه أبوبكر بن الصديق وعمر بن الخطاب والمقداد بن عمرو وسعد بن معاذ والحباب بن منذر (رضي الله عنه).
وصرح بذلك القرآن الكريم في غير ما من آية ((وشاورهم في الأمر )) ( ⁴)و ((والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ….))(5 ).
ويقول عمر بن الخطاب :((الإمارة شورى ، من دعا إلى إمارة نفسه أو غيره من غير مشورة من المسلمين فلا يحل لكم إلا أن تقتلوه ، فمن بايع أميرا عن غير مشورة المسلمين فلا بيعة له ولا الذي بايعه).
٦—التحليل للمسلمين بأخذ غنائم الحرب ، وتقسيمها بين المحاربين بعد إخراج الخمس ، سهمِ الله ورسوله وذي القربى واليتامى والمساكين ، كما فصّلته آية الأنفال ((يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم…)) (6 ) *
٧—التنبيه الإلهي الموجه إلى المسلمين في عدم جعل حب المال غرضهم الأول ، وهمهم الأعلى ، وخاصة في القضايا الدينية الكبرى ، فخاطبهم بأسلوب توبيخي تربوي دقيق (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة…)

٨–لقد ظهرت في غزوة بدر الكبرى ملامح وملحمات بطولية إيمانية صادقة ، توحي على وحدة صف المسلمين وتدل عليها ، وأقرب مثال لذلك ما بلغنا عن الأثر أن أبا عبيدة عامر بن الجراح ( رضي الله عنه ) قتل أباه في هذه الغزوة ، لقد كان الأب يتعرض للابن يريد قتله فيحيد الابن وينفلت ، ولما بلغ الأمر منتهاه قتله الابن ففي ذلك نزل قوله تعالى ((لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادّ الله ورسوله…))(8)

هوامش:
١—ابن اسحاق – ابن هشام ٢\٣٢٢
٢—سورة البقرة آية (٢٤٩)
٣—سورة محمد آية (٤)
*انظر كتاب السيرة النبوية للدكتور علي محمد الصلابي ص 372
٤—سورة آل عمران آية (١٥)
٥—سورة الشورى آية (٣٨)
*سورة الأنفال آية 41
٦–سورة الأنفال آية (١)
٧—سورة الأنفال آية (٦٧)
٨—سورة المجادلة آية (٢٢)

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici